"دايم".. حلقة في سلسلة قنابل القتل الجماعي
طارق قابيل
بدأت أنواع جديدة من الذخائر والقنابل بالظهور في العقدين الماضيين، وتحمل بعضها أسماء حديثة تروج لأدوات القتل الجماعي، ويدعي صانعوها بأنها أقل ضررا وأكثر رأفة بضحايا الحروب، غير أنها لا تهب سوى الموت السريع، ولا تمنح الناجين منها غير المعاناة الدائمة طوال حياتهم، وتبقيهم في صراع دائم مع الموت البطيء.
وتعتبر متفجرات المعدن الكثيف الخامل Dense Inert Metal Explosive المعروفة اختصارا بـ(DIME) نسخة تجريبية من سلاح مطور يمتلك قدرة فتاكة على التدمير المباشر في مساحات صغيرة. ويصنع هذا النوع من المتفجرات من خليط متجانس من المواد القابلة للانفجار مثل "إتش أم أكس" أو "آر دي إكس" وجزئيات صغيرة من معدن "التانجستين" الخامل كيمائيا. وتشير عبارة "المعدن الخامل" إلى غياب دور المعدن في إنتاج الطاقة التفجيرية كيميائيا عبر إطلاق التفاعل المسبب للانفجار أي بشكل معاكس تماما مع استخدام مسحوق الألمنيوم على سبيل المثال لزيادة القوة التفجيرية.
وتتكون قنابل ومتفجرات المعدن الكثيف الخامل من غلاف من ألياف الكربون محشوة بخليط من المواد المتفجرة ومسحوق كثيف من خلائط معدن "التانجستين" الثقيل (إتش. أم. تي. أي) (HMTA) والتي تتكون من مادة "التانجستين" والكوبالت والنيكل والحديد.
وعند حدوث عملية التفجير، تتشظى القنبلة إلى أجزاء صغيرة ليتحول معها المسحوق الكيميائي إلى شظية صغيرة فتاكة في حال التعرض لها من مسافات قريبة، سرعان ما تتلاشى قوة دفع هذه الشظية بسبب مقاومة الهواء.
وتتميز هذه المواد بالقدرة على القتل الفوري لكل الأشخاص الموجودين في مساحة تصل إلى أربعة أمتار من وقوع الانفجار لكنها تلحق إصابات بالغة بالأشخاص الذين يبعدون مسافة أكبر، من بينها بتر الأطراف بسبب قدرة الشظايا على اختراق العظام والأنسجة، مع احتمال الإصابة لاحقا بمرض يعرف باسم "سرطان الأنسجة".
وغالبا ما تظهر آثار حروق عميقة تصل إلى العظم لاسيما عند مواقع الأطراف المبتورة مباشرة بسبب التعرض لهذا النوع من المتفجرات، فضلا عن تهتك في الأنسجة والأوردة والشرايين مما يتسبب في حدوث نزف دموي كبير في العضو المصاب.
تاريخ دايم
ولدت قنبلة "دايم" في مختبرات سلاح الجو الأمريكي، بمشاركة علماء من مختبرات "لورنس ليفيرمور" الأمريكية، بعد إجراء سلسلة من الأبحاث التي كانت تهدف إلى تصنيع قنابل للمدن والمناطق السكنية، بحيث يكون تأثيرها المدمر ضمن مدى محدد لتقليل الأضرار الناجمة عنها.
وتزامنت هذه البحوث مع بدء ما أسمته الولايات المتحدة الأمريكية (الحرب على الإرهاب)، في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001. وبحلول العام 2002، خلال الحرب في أفغانستان تراجع الاهتمام بالقنابل التي تخترق بعمق كبير، وقامت القوات الجوية الأمريكية بتعديل الطائرات الحربية لتحمل نوعا جديدا من القنابل الموجهة بالأقمار الصناعية، والتي أصبحت السلاح الأمثل لبيئات المدن.
كما أنفقت 1.6 مليارات دولار لإنتاج قنبلة جديدة موجهة يصل وزنها إلى 250 باوند -أي ما يعادل 113.4 كيلوجراما- حيث كانت هي الأفضل للاستخدام في المدن، لأنها لا ُتحدث نفس التدمير الذي تقوم به القنابل الأكبر حجما من نوعها، إلا أنها قد تتسبب بخسائر بشرية كبيرة من خلال نثر محتوياتها السامة، لمسافة تبعد مئات الأمتار.
وتعتبر قنبلة دايم من المتفجرات التي لا تزال تخضع لمرحلة التجارب، حيث يفترض أن يكون تأثيرها التدميري أكثر فعالية ضمن مدى قطري أقل، باعتبار أنها صممت للتقليل مما يسمى بالدمار الملازم أو الموازي Collateral Damage، الذي ينجم عن القنابل الاعتيادية. وتعتمد الفكرة الأساسية في ابتكار قنبلة "دايم" على زيادة نفاذية الأجزاء الناتجة عنها، لزيادة فعاليتها ضمن مدى قطري أصغر، فهي تحوي معدن التنجستون الخامل، بدلاً من المعادن الاعتيادية الأخرى التي تستخدم في القنابل التقليدية كمعدن الألمنيوم.
وتتكون هذه القنبلة غير التقليدية من غطاء مصنع من ألياف الكربون، التي تمتاز بمتانتها وخفة وزنها، يحوي في داخله مسحوقا ذا كثافة عالية، وهو يتألف من خليط متجانس من معدن "التانجستين" الثقيل، وإلى جانبه معدن الكوبالت والنيكل أو الحديد، لينطلق هذا المسحوق عند الانفجار على هيئة شظيات مجهرية صغيرة جدا، لها تأثير قاتل ضمن المسافات القريبة التي تصل إلى أربعة أمتار.
ولا يمكن لهذا المعدن الثقيل "التانجستين" أن يتفاعل كيميائيا عند حدوث الانفجار لزيادة تأثيره، بل إنه يمتص جزءا من الطاقة الناجمة عن الانفجار، ليزيد ذلك من قدرة الشظيات المجهرية المميزة لقنبلة "دايم" على اختراق الأجسام، فُتحدث قطعاً في العظام والأنسجة الأخرى من الجسم، وخصوصا فيما يتعلق بالأطراف السفلية، بسبب وجودها في اتجاه سقوط الخليط المعدني.
أما الغطاء الخارجي للقنبلة؛ الذي يتكون من ألياف الكربون، فهو سهل الانفجار حيث يتفتت إلى أجزاء صغيرة جدا، تتناثر على هيئة غبار يؤدي استنشاقه إلى الموت المحقق، فيما تندفع المكونات من الخليط المعدني بقوة إلى الخارج، وتنطلق بسرعة هائلة، ومن ثم تتباطأ بشكل كبير خلال وقت قصير بسبب مقاومة الهواء، فتسقط أرضا بفعل الجاذبية محدثة آثارها المدمرة من خلال شظياتها المجهرية، والتي لها تأثيرات سمية و سرطانية. ويسهم الغطاء الكربوني في عدم تبديد الطاقة الناجمة عن الانفجار، في شطر الأغلفة المعدنية للقنابل، كما هو الحال بالنسبة للقنابل الاعتيادية، ما يزيد من التأثير المدمر لقنبلة "دايم" ضمن محيطها.
خلائط كيمائية سامة ومسرطنة
ويسعى مصممو هذا السلاح إلى الحد من مساحة الدمار التي يسببها الانفجار بهدف تجنب الآثار المباشرة وصورة التدمير التي قد تخلق رأيا عاما مضادا. خاصة وأن تأثيرات انفجار القنبلة دايم مباشر وفوري على البشر، ويتسبب في قتل وتشويه وحروق بالغة وبتر للأطراف، فيصل تأثيرها إلى الناجين من بطشها.
ولا تتوافر معلومات موثقة حول أضرار ومخاطر متفجرات "دايم" إلا أن بعض البحوث العلمية نجحت في الإشارة إلى وجود مخاطر صحية مستقبلية ترتبط بالخليط المتجانس من معدن "التانجستين" الثقيل عند من يتعرضون لهذا النوع من المواد. وأشارت دراسة علمية إلى أن الشظيات المجهرية التي تنتج عن هذا النوع من المواد المتفجرة، قد تستقر في الأنسجة المتأثرة، لتتسبب في إصابة الفرد لاحقاً بنوع نادرٍ من الأورام السرطانية.
وتعكف وزارة الصحة الأمريكية منذ عام 2000 على دراسة الآثار السمية لخلائط المعدن الخامل إلى جانب اليورانيوم المنضب على نمو الخلايا المكونة لنقي العظام. وفي دراسة مخبرية أجريت عام 2005 وجد باحثون أميركيون أن هذا النوع من الخلائط الكيميائية مثل التانجستين كانت السبب المباشر في ظهور سرطان الأنسجة في جرذان تم تعريضها لهذا النوع من المواد.
وتشير هذه الدراسات إلى أن السمية العالية لخلائط التانجستين ودورها في الإصابة بالسرطان يعود أصلا لاستخدام معدن النيكل، مع العلم بأن دراسات أخرى أشارت إلى أن التانجستين النقي أو أوكسيد التانجستين الثلاثي يعتبر أحد العوامل المسببة للسرطان، علاوة على خصائص سمية أخرى. ولقد تسبب مسحوق معدن التنجستون الخامل، الذي سيستخدم في قنبلة "دايم" بارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان عند فئران المختبر بشكل كبير.
وبحسب الدراسة التي أعدها باحثون في (معهد بحوث الإشعاع البيولوجي للقوات المسلحة)، في ولاية ميريلاند الأمريكية؛ وصل معدل الإصابة بسرطان الأورام الغرنية للعضلات المخططة rhabdomyosarcoma إلى 100 في المائة، بين الأفراد المتأثرين بمواد مشابهة للخليط المتجانس من معدن "التانجستين" الثقيل وطبقاً للنتائج التي ُنشرت في مجلة "العالِم الجديد" أظهرت تجربة أجريت على فئران زرعت في أنسجتها كبسولات تحوي مواد مشابهة بمواد مشابهة للخليط المتجانس من معدن "التانجستين" الثقيل أن جميع الفئران والبالغ عددها اثنين وتسعين فأرا، أصيبت بسرطان نادر ُيعرف باسم rhabdomyosarcoma، خلال مدة لم تتجاوز الخمسة أشهر.
فيما أظهرت تجارب مخبرية أخرى أجراها علماء من المعهد ذاته، أن هذا الخليط الخاص، له تأثير سمي على المادة الوراثية للخلايا البشرية المزروعة مخبريا. وأظهرت تجارب علمية أخرى، أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى احتمالية وجود ارتباط بين التعرض لمعدن التنجستون، وارتفاع مخاطر الإصابة بسرطان اللوكيميا. ويحذر الخبراء من الأضرار البيئية التي قد تنجم عن استخدام هذا النوع من القنابل، وخصوصا لاحتوائها معدن "التانجستين" الثقيل الذي قد يلحق أضرارًا بيئية كبيرة، سواء استقر في الأرض أو نفذ إلى مصادر المياه، الجوفية أو السطحية.
التفسيرات العسكرية
ذكر الخبير العسكري والإستراتيجي المصري العميد الزيات في تصريح للجزيرة نت أن أنواعا أخرى من الأسلحة شوهدت تستخدم في غزة منها ما يعرف باسم انفجار الوقود الهوائي الذي يخلف سحابة من ذرات الوقود التي تحترق، وتؤدي إلى تفحم الهدف الذي يتم تعريضه لهذا النوع من الذخائر.
واعتبر الزيات أن هذا النوع من الأسلحة التي لا تزال قيد التطوير والتجريب، يأتي في إطار ما يسمى عسكريا الذخائر عالية الدقة والقتل الأكيد والتي تحدث أضرارا جانبية مدمرة لا تستطيع عدسات الإعلام التقاطها وعرضها على الرأي العام. ولم يستبعد الخبير العسكري أن يكون اللجوء إلى هذه الأسلحة مدفوعا بحالة الصدمة الإسرائيلية من حجم ردود الفعل الشعبي عالميا على فظاعة الصور المنقولة عبر الشاشات حول ما يجري في غزة، علاوة على أنه يدل على حالة الفوضى والارتباك وعدم الانضباط التي تعاني منها قوات الاحتلال بسبب صعوبة موقفها على أرض الميدان.
"دايم" انتهاك لحقوق المدنيين
وكانت منظمة هيومن رايتس وتقارير أوروبية وفلسطينية قد أكدت استخدام إسرائيل لسلاح الفسفور الأبيض وأسلحة محرمة دولية أخرى في عمليات القصف الجارية في غزة، دون أن يتحرك مجلس الأمن لإدانة إسرائيل بارتكاب جرائم حرب بقتلها الأطفال والنساء وإدانتها لاستخدام الأسلحة المحرمة دوليا.
وجدير بالذكر أن اتفاقية جنيف تمنع استخدام الأسلحة التي تحدث "إصابات زائدة وغير ضرورية"، كما تنص على معاقبة من يتسبب في إحداث "إصابات جسدية وصحية خطيرة عند المدنيين". وينص البند 147/الجزء الرابع من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص والمدنيين وقت الحرب، على محاكمة الأشخاص المتورطين في انتهاك الاتفاقية "بالإقدام على أي من الأفعال الآتية، بحق أشخاص أو ممتلكات محمية بموجب هذه الاتفاقية وهي؛ القتل العمد، التعذيب، المعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك التجارب البيولوجية، التسبب بالمعاناة أو الإصابات الجسدية أو الصحية الخطيرة". وينص البند الخامس والثلاثين في الجزء الثالث للملحق الإضافي الأول للاتفاقية على "حظر استخدام الأسلحة والقذائف ومواد ووسائل القتال التي من طبيعتها أن تسبب إصابات زائدة ومعاناة غير ضرورية".
--------------------------------------------------------------------------------
متخصص في علوم الوراثة الجزيئية والخلوية والتكنولوجيا الحيوية، عضو هيئة التدريس بقسم النبات –كلية العلوم– جامعة القاهرة.. يمكنك التواصل معه عبر البريد الإلكتروني الخاص بالصفحة oloom@islamonline.net
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق