رحلة "فريد رامسديل" من قمة جبال روكي إلى قمة نوبل للطب
حادثة تلقي الضوء على قيمة "الانفصال الرقمي" وأهميته حتى لأكثر العلماء انشغالاً وعبقرية
د. طارق قابيل
عادةً ما تُعلن جوائز نوبل صباحاً في السويد، وتنتظر الأوساط العلمية في العالم لحظة الاتصال بالفائزين. لكن هذا العام، حمل الإعلان عن جائزة نوبل في الطب أو علم وظائف الأعضاء لعام 2025 قصة فريدة وطريفة، بطلها العالم فريد رامسديل.
فقد اكتشف الدكتور رامسديل فوزه بأرفع جائزة علمية في العالم متأخراً ما يقرب من 12 ساعة، والسبب بسيط: كان العالم، البالغ من العمر 64 عاماً، يعيش "أفضل أيامه" في رحلة تخييم وانقطاع عن شبكة الإنترنت وسط جبال روكي ، مفضلاً وضع هاتفه في "وضع الطائرة".
رامسديل، الذي كُرّم عن أبحاثه الرائدة في الجهاز المناعي، لم يتوقع أبداً أن يقطع صرخات الفرح بزوجته صوت مكالمة من ستوكهولم، بل كانت صرختها تحذيرية: "لقد فزت للتو بجائزة نوبل!"، وذلك بعد أن عثرت زوجته، لورا أونيل ، على خدمة خلوية لتكتشف سيل الرسائل النصية التي أغرقت هاتفها.
إن القصة الطريفة لوصول خبر نوبل إلى الدكتور رامسديل لا تقل إثارة عن الإنجاز العلمي الذي حققه، إذ تسلط الضوء على شخصية العالم الذي يوازن بين شغفه بالعلوم وحبه العميق للطبيعة والابتعاد عن صخب الحياة الرقمية.
إضاءة على أمراض المناعة الذاتية
قبل الخوض في تفاصيل مغامرة الجبال، من الضروري الإشارة إلى عمق الإنجاز الذي توج بالجائزة. الدكتور فريد رامسديل، وهو أحد قادة الأبحاث في شركة سونومـا بيوثيرابيوتيكس (Sonoma Biotherapeutics)، فاز بالجائزة تقديراً لأبحاثه الجوهرية التي ساهمت في تحسين الرعاية المقدمة لمرضى المناعة الذاتية (Autoimmune Diseases).
ما هي أمراض المناعة الذاتية؟ هي أمراض يهاجم فيها الجهاز المناعي للجسم – عن طريق الخطأ – أنسجة الجسم السليمة، بدلاً من الأجسام الغريبة كالبكتيريا والفيروسات. وتشمل هذه الأمراض، على سبيل المثال:
التهاب المفاصل الروماتويدي (Rheumatoid Arthritis).
التصلب المتعدد (Multiple Sclerosis).
مرض كرون (Crohn’s Disease).
لقد أسهمت أبحاث الدكتور رامسديل في فك شفرة آليات عمل الجهاز المناعي بشكل يساعد على تطوير علاجات أكثر دقة لهذه الأمراض المستعصية، وهو ما يمثل نقلة نوعية في توعية الجمهور العام صحياً بسبل مكافحة هذه الاعتلالات المزمنة.
البحث عن الهدوء: "الحياة بعيداً عن الشبكة"
كان الدكتور رامسديل وزوجته قد انطلقا في رحلة استمرت ثلاثة أسابيع في الجبال، قاطعين مسافات عبر سلاسل جبال أيداهو ، ووايومنغ ، ومونتانا ، برفقة كلبيهما (أحدهما من سلالة جوردون سيتر والآخر خليط من سلالة هاسكي تم إنقاذه.
بالنسبة لرامسديل، كانت الرحلة تعني الانفصال التام عن العالم الرقمي: "أقضي أطول وقت ممكن في الجبال،" قال الدكتور رامسديل، مضيفاً: "نميل للذهاب إلى المناطق النائية،" مشيراً إلى أنهم دائماً ما يترقبون رؤية حيوانات مثل البيسون ، والموظ ، والآيل ، والنسور.
لم يكن يتوقع مكالمة مهمة في ذلك الصباح، بل كانت فكرة الفوز بجائزة نوبل "لم تخطر بباله أبداً"، حسب قوله.
لجنة نوبل في مأزق: 20 ساعة للوصول إلى الفائز!
يُذكر أن لجنة نوبل تحاول الاتصال بالفائزين مباشرة بعد الإعلان الرسمي. لكن مهمة الأمين العام لجمعية نوبل، توماس بيرلمان ، هذا العام كانت الأصعب على الإطلاق منذ توليه المنصب في عام 2016.
بدأت محاولات الاتصال في الساعة الثانية صباحاً بالتوقيت المحلي لـ واشنطن (المنطقة الزمنية التي يُفترض أن يكون فيها رامسديل على دراية بالوقت)، لكن الهاتف كان في وضع الطائرة.
تمكنت زوجته لورا من التقاط إشارة الهاتف في منتزه تخييم في مونتانا، بالقرب من منتزه يلوستون الوطني، بعد ظهر يوم الإثنين. حينها، انهالت رسائل التهنئة، مما دفعها للصراخ اعتقاداً منها في البداية بأنها رأت دباً رمادياً!
رامسديل لم يصدق الأمر في البداية، ولكنه اقتنع عندما أرتْه زوجته مئات الرسائل النصية.
تمكن الدكتور رامسديل من التحدث مع الدكتور بيرلمان أخيراً من فندق في ليفنجستون، مونتانا، وذلك بعد حوالي 20 ساعة من أول محاولة اتصال. حتى عند محاولته الرد في وقت متأخر من المخيم، كان الدكتور بيرلمان قد خلد للنوم في السويد. ولم يتم الاتصال بشكل ناجح إلا في صباح اليوم التالي، في السادسة والربع صباحاً بتوقيت السويد، حيث قال بيرلمان: "في النهاية، نجحت العملية".
التواضع العلمي والعودة إلى الطبيعة
تكريم الدكتور رامسديل يؤكد الأهمية القصوى لأبحاثه التي تسهم في فهم وعلاج أمراض مستعصية مثل التصلب المتعدد ومرض كرون، وهو إنجاز يخدم توعية الجمهور العام صحيًا بتحقيق اختراقات علمية في علاج الأمراض المزمنة.
في الوقت نفسه، تُلقي هذه الحادثة الضوء على قيمة "الانفصال الرقمي" وأهميته حتى لأكثر العلماء انشغالاً وعبقرية. لقد أثبت رامسديل أن أعظم الإنجازات العلمية يمكن أن تتوج شخصاً يفضل هدوء الجبال على ضجيج الشهرة.
تُعد قصة الدكتور رامسديل تذكيراً قوياً بأن أعظم العقول العلمية قد تجد الإلهام والراحة بعيداً عن صخب الحياة الحديثة. لقد كُرّم لعمله الذي يحسّن حياة الملايين من مرضى المناعة الذاتية، ولكنه كان يعيش ببساطة في أحضان الجبال، دون أن يتوقع هذا التكريم.
عبر الدكتور رامسديل عن شعوره بـ"الامتنان للحصول على الجائزة، وسعيداً جداً بالاعتراف بهذا العمل بشكل عام، ويتطلع إلى مشاركة هذا الفوز مع زملائه".
تُظهر هذه الحادثة أن الإبداع والاكتشاف لا يتطلبان بالضرورة الاتصال المستمر بالعالم الرقمي، بل قد يزدهران في هدوء التفكير وصفاء الذهن الذي تمنحه الطبيعة. ورغم أن عالمنا يتجه نحو التكنولوجيا الكمومية والذكاء الاصطناعي، تظل الإنسانية البسيطة والتواضع صفات متجذرة في كبار علمائنا.
***
الكاتب:
د. طارق قابيل
- أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي.
- أستاذ جامعي متفرغ، وعضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية - كلية العلوم - جامعة القاهرة.
- مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
- أمين مجلس بحوث الثقافة والمعرفة، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
- الباحث الرئيسي لمشروع خارطة طريق "مستقبل التواصل العلمي في مصر ودوره في الاعلام العلمي"، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مصر.
- السفير الإقليمي للاقتصاد الدائري والمواد المستدامة لمنظمة "سستينابلتي جلوبال" (Sustainability Global)، فينا، النمسا.
- عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
https://orcid.org/0000-0002-2213-8911
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
تعليقات
إرسال تعليق