...
سباق القمة العلمية: توقعات جوائز نوبل
في
مطلع كل شهر أكتوبر (تشرين الأول)، يتجه أنظار العالم العلمي والجمهور المهتم إلى
العاصمة السويدية ستوكهولم، متسائلين عن هوية النخبة التي ستنال شرف التكريم
الأرفع في عالم العلوم، جائزة نوبل. ويترقب العالم، وفي كل عام، إعلان
الأكاديمية السويدية عن أسماء الفائزين بجوائز نوبل المرموقة، والتي تُعد أرفع
وسام للعلماء الذين قدموا إسهامات غيَّرت وجه البشرية. ومع اقتراب الإعلان عن
الفائزين، يترقب الجميع إعلانات لجنة نوبل المقررة في الفترة من 6 إلى 13 أكتوبر
2025، تتصاعد التكهنات والترشيحات بين أروقة الجامعات والمعاهد البحثية، وتشتعل
التكهنات والترشيحات حول الأبحاث والإنجازات التي ستحظى بهذا التكريم التاريخي.
هذا
العام، تدور المنافسة بقوة حول مجالات علمية أحدثت طفرة حقيقية، أبرزها أبحاث
الببتيد شبيه الجلوكاجون -1 (GLP-1)، وتقنية البصريات الوراثية (Optogenetics)،
والظاهرة الخلوية الجديدة: فصل الطور سائل-سائل للبروتينات (Protein
Liquid-Liquid Phase Separation).
فهل ستذهب الجائزة في مجال الطب أو الفسيولوجيا إلى الاكتشافات الثورية المتعلقة
بهرمونات التحكم في الوزن، أم إلى تقنية البصريات الوراثية (Optogenetics) الرائدة في علم الأعصاب، أم سيبرز
اكتشاف آخر ليخطف الأضواء؟
في هذا التقرير العلمي المفصل، الذي
يرتكز على أبحاث مستفيضة وأحدث المصادر المتخصصة، نستعرض آراء نخبة من العلماء حول
أبرز المرشحين لنيل الجائزة، مع تسليط الضوء على الأهمية العلمية والصحية لهذه
الاكتشافات التي غيرت مجرى الطب والبيولوجيا، والتي يرى فيها الخبراء مادةً تستحق
التتويج بجائزة نوبل في فسيولوجيا/طب أو الكيمياء، مُحدِّثاً ومُدقِّقاً لأحدث
المعلومات حولها.
اكتشافات غيّرت وجه الطب والبيولوجيا العصبية
لقد
أفرزت الأبحاث العلمية في العقود الأخيرة إنجازات فاصلة تركت بصمة لا تُمحى على
فهمنا لوظائف الجسم البشري وآليات الأمراض، لا سيما في مجالات التمثيل الغذائي (Metabolism)
وعلم الأعصاب (Neuroscience). وفيما يلي تحليل لأبرز الاكتشافات المرشحة
بشدة لنيل التقدير النوبلي لهذا العام.
1. ثورة هرمونات التحكم في الوزن والتمثيل الغذائي: الببتيد الشبيه
بالجلوكاجون-1 (GLP-1) والليبتين
(Leptin)
لطالما
كان تنظيم الوزن والتحكم في الشهية تحديًا طبيًا كبيرًا. ويشهد العقد الأخير ثورة
حقيقية في هذا المجال بفضل الأدوية المستمدة من الأبحاث حول هرمونين رئيسيين، وهو
ما يجعل هذه الأبحاث في صدارة الترشيحات.
أ. الببتيد الشبيه بالجلوكاجون-1 (GLP-1): من اكتشاف الهرمون إلى علاج السمنة والسكري
تعتبر
الأبحاث حول الببتيد الشبيه بالجلوكاجون-1 (Glucagon-like
peptide-1)، أو
اختصارًا GLP-1، من أهم الإنجازات الطبية الحديثة، حيث أدت
إلى تطوير فئة من الأدوية تُعرف باسم ناهضات مستقبلات GLP-1 (GLP-1 Receptor Agonists)، مثل سيماغلوتايد (Semaglutide) وليراجلوتايد (Liraglutide)، والتي حققت نجاحًا باهرًا في علاج مرض
السكري من النوع الثاني (Type 2 Diabetes) والسمنة (Obesity).
ترشح
الدكتورة لي زاو (Li Zhao)، وهي عالمة وراثة تطورية في جامعة
روكفلر، بقوة زميلتها سفيتلانا مويسوف (Svetlana
Mojsov) لنيل الجائزة.
الإنجاز
العلمي الجوهري:
سفيتلانا
مويسوف: لعبت
دورًا محوريًا في اكتشاف وتوصيف الشكل النشط بيولوجيًا من الببتيد الشبيه
بالجلوكاجون-1 وإثبات وجوده في الأمعاء وتأثيره القوي في تحفيز إفراز الأنسولين
من البنكرياس استجابة لتناول الطعام. وقد طورت مويسوف، في الثمانينيات، طرقًا
فعالة لتصنيع الببتيد وأدوات مناعية لا غنى عنها لإثبات وظيفة الهرمون، لتثبت بذلك
أنه الـ "إنكريتين" (Incretin) المفقود الذي كان العلماء يبحثون عنه.
التأثير
الصحي والعلاجي: تعمل
ناهضات GLP-1
على مستويات متعددة في الجسم:
تحسين
سكر الدم: تحفز
البنكرياس على إطلاق المزيد من الأنسولين عند الحاجة وتثبط إطلاق الجلوكوز المخزن
من الكبد.
إنقاص
الوزن: تعمل
في جزء من الدماغ ينظم الشهية وتناول الطعام، مما يعزز الشعور بالشبع (Satiety)
ويقلل من الرغبة في الأكل.
حماية
القلب والأوعية الدموية: أظهرت
دراسات أن هذه الأدوية تقلل من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية
الرئيسية (Major Adverse Cardiovascular Events) مثل النوبات القلبية والسكتات الدماغية، عن
طريق إبطاء تفاقم تصلب الشرايين (Atherosclerosis) وخفض ضغط الدم ومستويات الدهون.
ب. الليبتين: هرمون الشبع ومراقبة مخزون الطاقة
يرشح
العديد من العلماء، ومنهم الدكتورة لي زاو وعالم الأعصاب إيفان دي أراوجو (Ivan de Araujo)، العالم جيفري فريدمان (Jeffrey Friedman) لنيل الجائزة لاكتشافه لهرمون الليبتين
(Leptin).
الإنجاز
العلمي الجوهري:
جيفري
فريدمان: اكتشف
في عام 1994 أن الليبتين هو هرمون يُفرَز من الخلايا الدهنية ويسمح للدماغ
بمراقبة كمية الدهون المخزنة في الجسم.
التأثير
الصحي والعلاجي:
تنظيم
الوزن: يوفر
الليبتين إشارة إلى الدماغ للشعور بالشبع وتنظيم الطاقة.
تأثيرات
واسعة: كشف
البحث لاحقاً أن نقص الليبتين يؤدي إلى سمنة مفرطة، وأن للهرمون أدواراً عديدة في
تنظيم الجهاز المناعي (Immune System)، والشهية، والمكافأة (Reward)،
والخصوبة (Fertility) لدى الذكور والإناث. يُعد هذا الاكتشاف
علامة فارقة في فهم بيولوجيا السمنة والتمثيل الغذائي.
2. فصل الطور سائل-سائل للبروتينات (LLPS): آلية تنظيمية جديدة للخلايا
ظهر
مفهوم فصل الطور سائل-سائل للبروتينات (Protein
Liquid-Liquid Phase Separation - LLPS) كتحول ثوري في فهم طريقة عمل الخلية ووظيفة
البروتينات.
المرشح
والإنجاز:
يرشح
عالم النبات فيليب ويغي (Philip Wigge) عالم الأحياء الجزيئية أنتوني
هايمن (Anthony Hyman) في دريسدن، لكونه رائدًا في هذا المفهوم.
الشرح
العلمي: يشير
فصل الطور سائل-سائل إلى قدرة البروتينات على الانتقال بين حالتين، الدخول في حالة
فصل طوري شبيهة بالسوائل. هذا التفاعل يسمح للبروتينات بتكوين تجمعات (Condensates)
حيوية لا تحيط بها أغشية (Membraneless organelles) داخل الخلية، مثل النويّة (Nucleolus).
الأهمية: هذه الآلية التنظيمية عالمية في
الكائنات حقيقية النواة (Eukaryotes). يرى عالم الأعصاب بيتر فاندن بيرغي (Pieter Vanden Berghe) أن هذا الاكتشاف يمثل ثورة مستمرة،
ويفتح الباب أمام فهم آليات عمل الخلية، خاصة في مناطق البروتينات غير المنتظمة (Disordered Regions)
التي تشكل أكثر من نصف "البروتيوم" (Proteome) المتوقع، وهي مناطق لم يكن بالإمكان
دراستها بالوسائل التقليدية مثل التصوير البلوري بالأشعة السينية (X-ray Crystallography).
صلته
بالأمراض: تشير
الأبحاث الحديثة إلى أن اختلال تنظيم فصل الطور سائل-سائل يرتبط بشكل وثيق بالعديد
من الأمراض العصبية التنكسية (Neurodegenerative
Diseases)، بما في ذلك مرض الزهايمر (Alzheimer’s Disease) والتصلب الجانبي الضموري (ALS)، حيث يمكن أن تتحول التجمعات
السائلة إلى تكتلات صلبة أو خيوط أميلويد (Amyloid Fibrils) مرضية.
3. البصريات الوراثية (Optogenetics): التحكم بالدماغ
بومضة ضوء
تُعد
تقنية البصريات الوراثية ابتكارًا علميًا يجمع بين البصريات (Optics)
والهندسة الوراثية (Genetic Engineering)، وهي تتيح للعلماء التحكم في نشاط الخلايا
العصبية (Neurons)
بدقة فائقة باستخدام الضوء.
المرشح
والإنجاز:
يشير
كل من عالما الأعصاب بيتر فاندن بيرغي وإيفان دي أراوجو، وعالم
المناعة العصبية ديفيد غيت (David Gate) إلى اسم كارل دايسروث (Karl Deisseroth) من جامعة ستانفورد.
الشرح
العلمي: تعتمد
التقنية على إدخال جينات بروتينات حساسة للضوء، مثل الرودوبسين القنوي (Channelrhodopsin)، إلى خلايا عصبية معينة. بمجرد أن
تتعرض هذه الخلايا للضوء بطول موجي محدد، تتغير نفاذية أيوناتها، ما يؤدي إلى
تفعيل أو تثبيط نشاطها الكهربائي بدقة زمنية ومكانية لا مثيل لها.
الأهمية
والتطبيقات:
علم
الأعصاب الأساسي: أصبحت
البصريات الوراثية أداة أساسية لدراسة الدوائر العصبية المعقدة وفهم كيفية تأثيرها
على السلوك.
التطبيقات
السريرية الناشئة: بدأ
تطبيق هذه التقنية في العلاج السريري، لا سيما في مجال أمراض الشبكية الموروثة
(Inherited Retinal Diseases)، حيث تمكنت من استعادة جزئية للرؤية
لدى المرضى الذين يعانون من التهاب الشبكية الصباغي (Retinitis Pigmentosa) عن طريق جعل الخلايا العقدية
الشبكية (Retinal Ganglion Cells) حساسة للضوء.
تحديات
الترشيح: على
الرغم من تأثيرها الهائل في علم الأعصاب، يشير بعض العلماء، مثل فاندن بيرغي، إلى
أنهم كانوا يتوقعون فوز دايسروث بالجائزة سابقاً، ما قد يقلل من حظوظه هذا العام.
4. الخلايا الجذعية الدماغية (Brain Stem Cells): تجديد الأمل في
إصلاح الدماغ
رغم أن
الاكتشاف قديم نسبياً، إلا أن تأثيره لا يزال قوياً في الأبحاث الحالية.
المرشح
والإنجاز:
يشير
ديفيد غيت إلى العالم باسكو راكيتش (Pasko Rakic) من جامعة ييل، الذي اكتشف الخلايا
الجذعية الدماغية (Neural Stem Cells).
الأهمية: كان الاعتقاد السائد هو أن الدماغ
البالغ لا يمكنه إنتاج خلايا عصبية جديدة. اكتشاف الخلايا الجذعية الدماغية غيّر
هذا المفهوم بشكل جذري، وفتح الباب أمام مجال التجديد العصبي (Neuroregeneration).
التطبيقات
الحديثة: تُظهر
الدراسات الحديثة إمكانات كبيرة لزراعة الخلايا الجذعية في علاج تلف الدماغ الناتج
عن السكتة الدماغية (Stroke)، حيث تساهم في تجديد الخلايا
العصبية واستعادة الوظائف الحركية، وتخفيف الالتهاب وتحسين سلامة الحاجز الدموي
الدماغي (Blood-Brain Barrier).
أي من الرؤى ستنير منصة نوبل؟
إن
جائزة نوبل ليست مجرد تكريم فردي، بل هي احتفاء بالإبداع العلمي الذي يدفع بحدود
المعرفة الإنسانية. إن جميع الأبحاث المرشحة لهذا العام تمثل قفزات نوعية: فمن
التحكم في الشبع والأيض (Metabolism) عبر هرمونات الليبتين وGLP-1، إلى
القدرة على "إضاءة" دوائر الدماغ والتحكم فيها بدقة البصريات الوراثية،
وصولاً إلى الفهم العميق لكيفية تنظيم الخلية نفسها عبر فصل الطور البروتيني. وبغض
النظر عن الفائز في النهاية، فإن هذه المجالات العلمية كلها تواصل إحداث تحول جذري
في الطب الحيوي، وتُقدم حلولاً مبتكرة لتحديات صحية عالمية مثل السمنة والأمراض
العصبية، مما يؤكد أن الاستثمار في البحث العلمي هو الطريق الأوحد لمستقبل صحي
أفضل للبشرية جمعاء.
تتجه
التوقعات العلمية لجائزة نوبل في الطب/الفسيولوجيا لعام 2025 نحو ثلاثة مسارات
بحثية رئيسية ذات تأثير ثوري: أولها، اكتشافات هرمونات GLP-1
والليبتين التي
أحدثت نقلة نوعية في مكافحة السمنة والسكري. ثانيها، تطوير تقنية البصريات
الوراثية للتحكم في الدوائر العصبية بالضوء، وهي أداة لا غنى عنها في علم
الأعصاب. وثالثها، مفهوم فصل الطور سائل-سائل للبروتينات الذي كشف عن آليات
تنظيمية جديدة داخل الخلية ويرتبط بأمراض التنكس العصبي. كما يبقى اكتشاف الخلايا
الجذعية الدماغية إنجازًا أساسيًا يمهد لعلاجات مستقبلية لإصابات الدماغ.
إنّ
هذه الترشيحات والتوقعات، المستمدة من آراء كبار الباحثين في الجامعات والمعاهد
العالمية، لا تمثل مجرد تخمين، بل هي شهادة على القوة التحويلية للبحث العلمي
الأساسي. فالاكتشافات المتعلقة بـ GLP-1 والليبتين تقدم أملاً ملموساً لملايين
المرضى الذين يعانون من السمنة وأمراض التمثيل الغذائي، مما يساهم بشكل مباشر في التوعية
الصحية للجمهور العام وتحسين جودة الحياة. وفي الوقت ذاته، تمنحنا تقنيات مثل
البصريات الوراثية وفصل الطور سائل-سائل فهماً أعمق للحياة على المستوى الجزيئي
والخلوي، وهو الفهم الذي سيقودنا إلى علاجات أكثر دقة للأمراض العصبية المستعصية.
سواء ذهبت الجائزة إلى GLP-1 أم إلى البصريات الوراثية أو غيرها، فإن الإعلان المرتقب هو احتفاء بالجهود التي لا تكلّ للعلماء الذين يسعون لكشف أسرار الحياة، مقدّمين للبشرية رؤى جديدة وأدوات لغد أكثر صحة. يتبقى السؤال: هل ستنير الكيمياء الحيوية لـ GLP-1 منصة نوبل، أم ستخطف البصريات الوراثية أضواءها؟ الإجابة ستأتي قريباً من ستوكهولم.
***
الكاتب:
د. طارق قابيل
- أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي.
- أستاذ جامعي متفرغ، وعضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية - كلية العلوم - جامعة القاهرة.
- مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
- أمين مجلس بحوث الثقافة والمعرفة، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
- الباحث الرئيسي لمشروع خارطة طريق "مستقبل التواصل العلمي في مصر ودوره في الاعلام العلمي"، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مصر.
- السفير الإقليمي للاقتصاد الدائري والمواد المستدامة لمنظمة "سستينابلتي جلوبال" (Sustainability Global)، فينا، النمسا.
- عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
https://orcid.org/0000-0002-2213-8911
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
تعليقات
إرسال تعليق