. رحلة في العلوم وكشف أسرار الحضارة المصرية:
لقاء العقول حيث يلتقي الأثر بالبيولوجيا والذكاء الاصطناعي

د. طارق قابيل
في
صبيحة يوم الإثنين الموافق 29
سبتمبر
2025،
تحولت قاعة الأستاذ الدكتور هاني الناظر بالمركز القومي للبحوث إلى ملتقى
استثنائي، لم يكن مجرد ندوة علمية عابرة، بل كان بمثابة حلقة وصل زمنية ومعرفية،
تمتد جذورها إلى ثلاثة آلاف عام لتصل إلى أحدث تقنيات القرن الحادي والعشرين. كانت
ندوة "من فك رموز حجر رشيد إلى عظام بناة الأهرام: رحلة
في العلوم وكشف أسرار الحضارة المصرية"، التي نظمها قسم الأنثروبولوجيا البيولوجية
بالمركز القومي للبحوث، بحق، نقطة تحول في نظرتنا للتاريخ، وأثبتت أن العلم هو
الجسر الأوحد الذي يعيد الحياة للماضي.
غادرت
الندوة بشعور عميق بالامتنان والإثراء المعرفي. لم تكن التجربة مجرد استماع
لمحاضرات، بل كانت انغماسًا في نسيج من المعارف المتقاطعة، حيث تضافرت جهود
الأثريين والأنثروبولوجيين البيولوجيين ونجوم الإعلام العلمي لتقديم صورة متكاملة
عن الحضارة المصرية. هذه مراجعة شاملة لعمق هذه الرحلة، وللأجواء الدافئة التي
ميزتها، وللأثر الذي تركته في نفوس الحاضرين.
الأجواء
الباذخة واللقاءات الدافئة: التجمع العلمي المُشترك
منذ
اللحظات الأولى لوصولي إلى قاعة الندوة، كان واضحاً أن هذا الحدث يحمل ثقلاً
خاصاً. لم يكن التزام الحضور نابعاً فقط من الأهمية الأكاديمية للموضوع، بل من شغف
حقيقي يجمع بين جميع الأطراف.
الكيمياء
الاجتماعية
كانت
الأجواء داخل القاعة تحمل روح التآلف والاحتفاء بالعلم. كان المشهد مزيجاً فريداً
من طلاب الدراسات العليا الذين يحملون دفاترهم وعلامات الدهشة على وجوههم،
والباحثين المتمرسين الذين يتبادلون النظرات المؤيدة والتعليقات الجانبية، جنباً
إلى جنب مع نخبة من الصحفيين والكتاب العلميين الذين يحملون قلمهم لتسجيل القصص
وراء الأرقام.
ما
أضفى جمالاً خاصاً على الندوة هو غياب الحواجز التقليدية بين التخصصات. فالمركز
القومي للبحوث، بصفته قلعة البحث العلمي متعددة التخصصات، كان هو الحاضن المثالي
لهذا التنوع. لقد استشعرت روح الفريق الواحد، فجميعنا أبناء مؤسسة واحدة تسعى
لخدمة المعرفة، سواء كنا في مختبرات الأنثروبولوجيا أو في مكاتب تحرير الصحف
العلمية.
كنوز
اللقاءات الجانبية
لعل
أحد أعظم مكاسب هذه الندوة لم يكن ما قيل على المنصة فحسب، بل ما تناهى إلى
مسامعنا في فترات الاستراحة. لقد كانت فرصة ذهبية لمقابلة أصدقاء وزملاء أعزاء لم
ألتق بهم منذ زمن، يمثلون مختلف مجالات العلوم. تبادل الأحاديث مع عالم
الأنثروبولوجيا عن أحدث تقنيات تحليل الحمض النووي
القديم،
ومناقشة تقنية مع مهندس برمجيات عن تحديات تصميم نماذج الذكاء الاصطناعي للآثار،
كل ذلك شكّل ندوة موازية لا تقل أهمية عن الجلسات الرسمية.
إن هذه
اللقاءات تؤكد حقيقة هامة: التقدم العلمي الحقيقي لا يولد في عزلة المخبر،
بل في تلاقي العقول المتحفزة. إن العلاقة الوطيدة التي تجمعنا نحن العلماء
بالصحفيين العلميين تحديداً، هي علاقة شراكة لا غنى عنها، حيث يمثلون صوتنا
ونافذتنا إلى العالم. لقد كانت الأجواء رائعة، مشحونة بالطاقة الإيجابية والاحترام
المتبادل، وتجسدت فيها أعلى معايير الحوار العلمي الراقي.
الرحلة
التاريخية الطويلة: من الحجر إلى الهيكل العظمي
الندوة
لم تبدأ في العام 2025، بل بدأت رحلتها منذ اللحظة التي تم فيها فك رموز حجر رشيد
في العام 1822، هذا الحجر الذي لم يكن مجرد لوحة، بل كان مفتاحاً لـ "ميلاد
علم المصريات" ونشأته. لكن الرحلة التي أخذتنا فيها الندوة كانت أعمق وأكثر
حميمية.
ميلاد
العلم الجديد: الأنثروبولوجيا البيولوجية والأثر
أكدت
الندوة أن دراسة الحضارة المصرية لم تعد قاصرة على قراءة النقوش وتحليل المنشآت.
بل إنها تحولت إلى علم شمولي يستنطق البقايا الآدمية ذاتها. لقد استعرض الباحثون،
وعلى رأسهم علماء قسم الأنثروبولوجيا البيولوجية بالمركز، عقوداً من الجهد
المتواصل في دراسة الرفات الأثرية.
هذا
القسم، الذي يعود تاريخ نشاطه في هذا المجال إلى تسعينيات القرن الماضي، هو
المخزون المعرفي الذي حفظ لنا أسرار حياة أولئك الذين بنوا الأهرامات. إنه تحول في
الاهتمام من "ماذا بنوا" إلى "من هم هؤلاء البناة؟"
العمق
الإنساني: استنطاق عظام بناة الأهرام
كانت
الجلسة الأولى، والتي يمكن وصفها بـ "قصة الأجداد بصوت الأحفاد"،
هي الأكثر تأثيراً. لقد تم تقديم تحليل مفصل للدراسات التي أُجريت على المجموعة
العظمية المكتشفة بمنطقة الجيزة، والتي تعود لعمال وموظفين شاركوا فعلياً في بناء
الأهرامات.
إن هذه
الهياكل العظمية ليست مجرد أدوات قياس، بل هي وثائق بيولوجية تحمل في تركيبها
أسرار حياة كاملة:
·
النظام الغذائي والصحة: كشفت
التحاليل عن نوعية الغذاء الذي تناوله البناة، والذي كان على الأرجح غنياً
بالبروتين (اللحوم) أكثر مما كان يُعتقد سابقاً، مما يدحض نظرية العبودية ويؤكد
وضعهم كعمالة ماهرة تحظى بعناية.
·
إصابات العمل والإجهاد البدني: لقد حملت العظام آثار عمل شاق ومجهود بدني ضخم.
عظام الفقرات والمفاصل تروي قصص الإجهاد والإصابات المتكررة، مما يعطينا تقديراً
حقيقياً لحجم التضحية والجهد اللازم لنقل وتركيب تلك الكتل الحجرية الهائلة.
·
متوسط الأعمار والأمراض: ساعدت
هذه الدراسات في تقدير متوسط العمر المتوقع لهذه الفئة، وتحديد الأمراض الشائعة
التي كانوا يعانون منها. فكل كسر، وكل التهاب مفاصل، وكل علامة مرض هي جزء من
"البيوجرافيا" الشخصية لهؤلاء الأجداد.
هنا
يكمن الجوهر: الدراسات البيولوجية تحول بناة الأهرام من شخصيات أسطورية إلى كائنات
بشرية حقيقية عاشت وتألمت وعملت بكل ما أوتيت من قوة وإخلاص، وهذا هو الكنز الذي
يجب إلقاء الضوء عليه أمام جموع الشعب المصري كافة.
تحدي
الجسر المعرفي: تبسيط العلوم والتواصل
الوصول
إلى الحقيقة هو نصف المعادلة، والنصف الآخر والأصعب هو إيصال هذه الحقيقة بوضوح
وشغف. وقد خصصت الندوة جلسة كاملة، وهي الجلسة الثانية: "من الحفائر إلى
الجمهور"، لمعالجة هذا التحدي الحيوي.
ولقد شرفت بالمشاركة في إدارة هذه الجلسة الهامة والتحدث عن أهمية التواصل العلمي
وتبسيط العلوم، والتعاون بين العلماء والصحفيين العلميين لتوصيل العلوم لقطاع عريض
من الجمهور.
مسؤولية
ما بعد الاكتشاف
شددت
الندوة على أن العالِم ليس مسؤولاً فقط عن مختبره، بل عن مجتمعه. إذا بقيت هذه
الاكتشافات والمعلومات الشيقة محبوسة في المجلات العلمية المتخصصة، فإننا نفقد
فرصة حقيقية لرفع مستوى الوعي العام وتعزيز الفخر بالهوية المصرية القائمة على
الإنجاز العلمي والتاريخي.
إن
تبسيط العلوم ليس مجرد "شرح"، بل هو فن الترجمة الذي يحافظ على الدقة
العلمية وفي الوقت ذاته يضمن الجاذبية الإعلامية.
التناغم
بين العالم والصحفي: صياغة الحكاية
كان
النقاش محورياً حول العلاقة الجدلية بين الباحث والصحفي. العالم يقدم
"البيانات"، والصحفي يقدم "السرد". هذه الشراكة ضرورية:
·
دور العالم: توفير
البيانات الخام، التحليلات، والتأكد من صحة المعلومة.
·
دور الصحفي: تحويل
الجفاف الأكاديمي إلى قصة إنسانية، اختيار الزاوية المناسبة، واستخدام أدوات
التواصل الحديثة (من الإعلام الرقمي إلى الأفلام الوثائقية) لجعل المعلومة قابلة
للاستهلاك والفهم من قبل الجمهور غير المتخصص.
إن
نجاح هذه الندوة ذاتها في جذب هذا الحضور المتنوع هو دليل على نجاح هذا التناغم.
إضاءات
من المحاضرين (الجلسة الثانية)
لقد
كانت المحاضرات في هذه الجلسة أمثلة حية على كيفية تحقيق هذا التبسيط:
الدكتورة
شروق الأشقر (باستيتودون: من زئير الماضي إلى حديث العالم): قدمت الدكتورة الأشقر، وهي باحثة متميزة، مثالاً
حياً ومميزاً على كيفية تحويل اكتشاف حفري (مثل "باستيتودون")، وهو
عبارة عن بقايا فقارية قديمة، إلى حديث عالمي وشعبي. لقد أظهرت كيف أن القصص
الإنسانية (أو الحيوانية القديمة) التي تكمن خلف الاكتشافات هي التي تضمن انتشارها
وبقائها في الذاكرة الجمعية.
الدكتور
شادي عبد الحافظ (تقديم العلم للجمهور: 5 مهارات تجعلك محترفًا): قدم الدكتور عبد الحافظ، الكاتب والصحفي العلمي الشهير،
والذي له ثقل في المجال، مجموعة عملية ومكثفة من المهارات والأدوات للباحثين،
مشدداً على ضرورة أن يتسلح الباحث بقدرات التواصل، وأن يفهم طبيعة الإعلام الحديث،
وكيف يصنع "الخطاف" الذي يجذب انتباه القارئ أو المشاهد في زمن المنافسة
المعرفية. كانت محاضرته بمثابة خارطة طريق لكل عالم يرغب في أن يكون سفيراً لعلمه.
استشراف
المستقبل: الذكاء الاصطناعي في خدمة الأثر
لم
تكتفِ الندوة بالغوص في الماضي البعيد وتحديات الحاضر، بل مدت جسراً قوياً نحو
المستقبل من خلال تناولها لـ أهمية العلوم الحديثة والتكنولوجيا المتقدمة، ومن
بينها تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI).
الرهان
على التكنولوجيا المتقاطعة
هذه
الجلسة، التي يمكن اعتبارها قفزة نوعية في الندوة، أكدت أن الأبحاث الأثرية
والأنثروبولوجية لم تعد تعتمد على الفرشاة والمسطرة فقط، بل أصبحت تعتمد بشكل
متزايد على سرعة ودقة الحوسبة والتحليل الرقمي.
يعد
الذكاء الاصطناعي أداة ثورية يمكن أن تغير وجه علم المصريات:
·
تحليل البيانات الضخمة (Big
Data Analysis): يستطيع الذكاء الاصطناعي معالجة كميات هائلة من
البيانات الأثرية (نقوش، صور، قياسات عظام، نتائج كيميائية) بسرعة فائقة تفوق
القدرات البشرية. هذه السرعة تفتح الباب لاكتشاف أنماط وعلاقات متبادلة لم تكن
مرئية سابقاً للعين المجردة أو للتحليل التقليدي.
·
التعرف على الأنماط والنقوش: يمكن لتقنيات التعلم الآلي التعرف على أشكال الخط
الهيروغليفي المتكررة، وترميزها، وحتى المساعدة في ترجمة نصوص تعرضت للتلف الشديد،
مما يسرع بشكل كبير من عملية قراءة الآثار وتصنيفها.
·
النمذجة الثلاثية الأبعاد وإعادة بناء الرفات: تساعد النمذجة الحاسوبية المدعومة بالذكاء
الاصطناعي في إعادة بناء الهياكل العظمية التالفة أو المشوهة رقمياً، وإعادة تصور
المظهر المحتمل للأفراد القدامى، مما يضفي بعداً بصرياً واقعياً على نتائج البحث.
إن دقة
وسرعة المعالجة التي يوفرها الذكاء الاصطناعي تمثل قفزة نوعية، وتحول البحث
الأنثروبولوجي من جهد شاق يستهلك السنوات إلى عملية ديناميكية يمكن أن تكشف عن
المزيد والمزيد من أسرار ماضينا المشترك. إنه المستقبل الذي يعانق الماضي بكل قوة،
لتتسارع وتيرة الكشف عن المزيد من أسرار الحضارة المصرية.
الشكر
والرسالة الخالدة
في
الختام، كانت هذه الندوة بمثابة نقطة مضيئة في خارطة الفعاليات العلمية المصرية.
لقد كانت متكاملة في رؤيتها، عميقة في محتواها، ودافئة في أجواءها.
أثبتت
الندوة أن الحضارة المصرية لا تزال حية وتتطور عبر أدوات العصر. إن الإرث الذي بدأ
بفك رموز حجر رشيد قد وصل اليوم إلى استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي لفهم
ماضينا.
وأود
أن أتوجه بخالص الشكر والثناء للهيئة المنظمة لهذه الندوة المتميزة، وعلى رأسها المركز
القومي للبحوث، ممثلاً بقسم الأنثروبولوجيا البيولوجية - معهد البحوث الطبية
والدراسات الإكلينيكية. إن جهودهم في إقامة هذا الحدث، وجمع هذه النخبة
من العلماء والصحفيين، وتوفير هذه الأجواء الرائعة للقاء الزملاء والأصدقاء
القدامى، هي دليل على الوعي بأهمية البحث العلمي العابر للتخصصات، والدور المحوري
الذي يجب أن يلعبه المركز القومي للبحوث في تشكيل الوعي العام.
لقد
كانت "رحلة في العلوم" بكل معنى الكلمة، ورحلة لا تنتهي. وأنتظر بشغف
الأبحاث القادمة التي ستكشف عنها مختبراتنا، والأخبار التي سينقلها الصحافيون
العلميون، ليبقى التاريخ المصري الحديث هو امتداد مشرف لتاريخه القديم، مدعوماً
بالعلم.
تعليقات
إرسال تعليق